الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

عينا الزمرد - قصة قصيرة ,












*عينا الزمرد*


"انتظرني يا صغيري هنا .. سأحضر لك بعض الحلوى و أعود"
كانت هذه الكلمات آخر ما سمعها مِن أمه قبل سبع سنين ؛ رابه في ذلك الوقت نبرة صوتها اللطيفة الغير معتادة بالنسبة له .
لكن لا حقًا , حينما لم تعد لذلك الطفل القبيح البشع كما تصفه .. ارتعد رعبًا فهو لا يعلم ما الذي جعل أمه تتأخر..
ما الذي حدث مع أمه التي لا يقيس عشقه لها مقياس , أمه التي كرهها له لا تحصي مقداره أرقام ؟
جرجر خطاهُ بحثًا عنها , لم يهتم يومًا إن كانت لا تحبه أو تهينه حتى عندما تناديه بـ "أيها القبيح الأسود , تعال هنا" لم يحمل عليها في قلبه مقدار ذرةٍ مِن الكره فما يهمه أنه هو يحبها.
"ماما , ماما" كان يجول بالطرقات مناديًا لم يخل أنها يومًا ستتركه و تنفذ وعدها.
لم يعبأ بنظراتِ الناس المشمئزة له و لا تعجبهم عن عيناه الجميلتان.
يعرف تمام المعرفة أنهم يتساءلون بذاتهم "كيف لهذا القبيح الأسود , عينان خضروات واسعتان براقتان ؟"
عيناه آسره , ما أن تقع عيناك على عيناه حتى تخنع ملامحك و تضمحل قواك.
بقيّ يسير بلا هدى , بلا مكان يفيء إليه و لا جرعةُ ماءٍ باردة يفثأ بها هذهِ الصارة.
من قد يأوي أسود قبيح أو يساعده ؟
سأل ذاته , لكن لم يجد جواب أكثر شمولًا مِن " لا أحد "
"ماما , أنا عطشان " حدث نفسه  و قد اغرورقت عيناه الخضروات و فاضت بالدموع.
أمسى أسير ظلمة الليل الحالكة ، ضغط بطنه بيداه الصغيرتان و مرر لسانه بين شفتاه الكبيرتان. 
إنه جائع عطش تائه و مشتاق. 
" ماما .. أنا جائع ، لا بأس بفضلة طعامكِ و لا بأس بذلك الكوب المكسور الذي جرح شفتاي مراتٍ و مراتٍ " كفكف دمع عينيه بباطن كفيه و اردف حديث ذاته " ماما أنا لم أتذمر يومًا ، ماما أنا أحبكِ كثيرًا " 
توقف عن السير ، لم يستطع الحراك أكثر و لم يعد بإمكانه رؤية أي شيءٍ من حوله فقد تراكمت السحب حابسةً ضوء القمر
لم يكن الظلام الذي يعيش في غرفته المهملة يخيفه بل إنه صديقهُ الوحيد. 
" أنت أسود مثلي ، ماما دائمًا ما تقول ليّ إني أسود قبيح مُظلم "
استند على حاوية نفايات و رأسه لأعلى و حبس الكلام و العبرات بداخله , كما أعتاد أن يفعل دومًا .
اخفض جفنيه مغلقًا مصدر البريق الوحيد في المكان ( عيناه الخضراوات )
أصوات الليل الخافتة ، النسيم اللطيف الذي أنقصه كماله رائحة النفايات و الأوساخ حوله و... 
" صوتُ خطوات .. أهيّ ماما ؟!" حدث ذاته بوجل لكن ما لبثت هذه الفرحة إلا أن تضمحل " لأنها ليست خطوات ماما .. خطوات ماما مختلفة "
فلم ينبس ببنت شفة و راقب من خلف القمامة رجل ضخم الجثة يتخبط في مشيه رمى كيسًا اثناء سيره. 
تابع بعينا الزمرد الرجل حتى تلاشى من ناظريه. 
فأنقض على الكيس الذي فاحت منه رائحة الطعام بوجل و بنهم بدأ يأكل بقايا وجبة سريعة و يرتشف القطرات المتبقية من علبة ماءٍ في الكيس ذاته. 
" ماما ، سأجدكِ و أتناول الحلوى التي ستحضرينها ليّ "
و ارخى جسده على كومةٍ من التراب فنام و رسم شدقيه ابتسامة قلبهِ الجميل .
***

" لالالا ! لا تفعل .. لن أفعلها مُجددًا" 
نفذ صراخ النجدة إلى أذن الصغير فجعله يفيق فزعًا. 
لم ينبس ببنت شفةٍ حينما أراه ضوء القمر بعدما انقشعت الغيوم حوله ، رجلٌ يشهر بسكينةٍ في وجه آخر ملقى على الأرض. 
" لا تفعل " صرخ الصغير بلا وعيّ منه. 
استدار الرجلان ... عجزا لأول وهلةٍ تحديد إن كان الصوت يعود لبشري أم لشبح ! فلم يكن جسده الأسود مساعدًا ليراه الناس في الظلام ، لكن ببريق عيناه و قليل من ضوء القمر نطق الرجل الواقف :" مجرد طفل " 
كرر الصغير سائرًا إليهما و عيناه مثبتة في عينيّ الرجل الاول :" لا تفعل ، لا تفعل ، لا تفعل " كانت وتيرة هادئة عميقة. 
راقب الرجل حركات الطفل في هدوء و سرعان ما أسقط السكينة من يده فما كان مِن الآخر إلا أن يهرب بعيدًا.
" شكرًا لأنك فعلت هذا " شكره الصغير بأمتنان بالغ عندما توقف بجانب الرجل. 
جلس  على الأرض مُحاذيًا طول الصغير و ماثلًا أمام الصغير كما العبد بين يديّ مولاه. 
فقال له الطفل :" هل رأيت ماما ؟"
نفى برأسه فتنهد الصغير بأسى. 
رفع الرجل يديه إلى كتفي الصغير و نطق :" لكنيّ وجدتك أنت ... أنت رائع " 
و ضمه إلى صدره ، كانت المرة الأولى التي يقترب فيها منه أحد ، المرة الأولى التي يحدثه أحد ، المرة الأولى التي يتقبله فيها أحد ، المرة الأولى التي يعانقه فيها أحد و المرة الأولى التي يمتدحه فيها أحد. 
فنطق الطفل بفرح :" أنت أول حياتي "
***
علم الصغير لاحقًا أن الرجل يحمل اسم (ميليك هاڤي) طبيب و عالم متمرس في علوم النفس و الظواهر الغريبة. 
أخبره أنه يمتلك موهبة خارقة للسيطرة على من يريد باستخدام القوى التي يستطيع تركيزها في عينيه و يجعل من يشاء خانعًا بين يديه بتحقيق شرطٍ واحد , أن يجعل الشخص يحدق في عينيه. 
و ذلك أمرٌ يسير ، فلا أحد ينظر إليه إلا و يحدق في عينيه إعجابًا و استخسارًا لوجود جمالٍ كهذا ، وسط قباحةٍ كتلك. 
تلقى عن الطبيب شتى العلوم و عاش معه حتى بلغ الخامسة عشر من العمر بعقلِ و خبرة رجلٌ بالغ في السبعين من العمر.
مرت سبع سنين منذ فقدانهِ والدته حينما كان في الثامنةِ مِن عمره و لم تكن المرة الأولى التي يفقد فيها شخصًا يحبه !
"أول حياتي , فنى بعد سبع سنين .. سبع سنين فقدت شخصًا أعشقه أيضًا فهل ستهديني الحياة حبًا ثالثًا ؟"
نثر الزهور فوق قبر أستاذه و أباه و حياته الأولى كفكف دمعة سقطت لأجل الشخص الوحيد الذي أحبه كما هو و علمه و كرّس بقية حياته لأجله ..
"لما الحياة قاسية ؟" و استعبر باكيًا.
مرّ وقته طائفًا بين ثنايا ذاكرته ..
ها هو يجري أول تجربة حقيقة بعدما أكتشف أستاذه قدرته المتركزة في عينيه.
أشار له أستاذه إلى شابٍ في منتصف عقده الثاني يلج إلى محل مجوهراتٍ خلسة فقال له :"يريد السرقة , فلتمنعه"
أطاع ما قيل له فتبع الرجل في خطاه إلى داخل المحل .
اصطدم بهِ عمدًا فاستدار الرجل باحثُا عمن اصطدم به فأخفض رأسه و اشمئز من الطفل كما يفعل الجميع.
رفع الآخر رأسه إليه و فتح عيناه و أيضًا كالجميع حدق فيهما بإعجابٍ شديد.
لم يُبعد الطفل عيناه بل ثبتهما في عينيّ الرجل و كرر :"لا تفعل .. لا تفعل .. أخرج مِن المحل .. لا تعد للسرقة مُجددًا"
فلم يملك  الطفل إلا الدهشة مما حصل فبلا نقاش فعل الرجل ما أمره به.
بُترت ذكراه حينما سقطت قطرات المطر عليه فنهض و قد أقسم أن ينتقم لقاتل أستاذه !
أعتاد فأصبح لا يهتم و لن يهتم لنظراتِ الناس المستحقرة و المشمئزة و أكمل سيره قاصدًا بيت من يدين له بحياته.
حدث ذاته بغضبٍ مكتوب مستذكرًا يوم أنقذ ذلك الرجل من بين يديّ أستاذه و كيف أن ذات الشخص يعود اليوم ليقتل السيد هاڤي .
"لم يخطر بباليّ أنه سيدخل للمنزل بعد خروجي منه _ أخبرني أستاذي مرةً أن هذا دعس طفله و زوجته بالسيارة و هرب و الشرطة لم تمسكه لكنه كان يعرفه و يعرف أن هذا عن عمد لأنه كان يغار منه لذكاءه و تفوقه في مجال عمله عليه ..
طلب منه مرةً أن يستغيل ليفسح المجال لغيره لكنه رفض و كانت النتيجة أن خسر زوجته و ولده لذا أراد قتله و الأنتقام منه لكن وجودي هناك ذلك اليوم حال دون ذلك .. لكنه أراد من العدالة أن تقام و ما زال يبحث عن الدليل ليسلمه للشرطة و بالأمس وجده.
و اليوم .. قُتل , لا أحد غيره .. فالأدلة ضده أختفت و الشرطة لا تأخذ بأقوالي حتى أن المفتش اشمئز من شكلي كغيره من الناس .. لذا سأنتقم أنا"
قصد الباب الخلفي للمنزل حيثُ كانت الخادمة تُخرج القمامة فذهب إليها و أوقفها.
فقالت :"ماذا تريد أيها الولد!؟"
لم يجبها بل نظر نحو عينيها مباشرة و هي فعلت .. و وقعت تحت سيطرته بسهولة كما تدرب الالاف المرات.
"ستبقين في الخارج و تجلسين على هذا الكرسي " قال بنبرةٍ عميقة هادئة.
و بلا نقاش سارت بخطواتٍ متزنة و جلست فوق الكرسي الذي أُمرت أن تجلس عليه.
ابتسم و سار للداخل كان يعلم مِن أين يدخل و إلى أين يصل , فتجاوز الممرات بخفةٍ دون أن يراه أحد.
كان المنزل خاليًا إلا مِن صوتٍ قادمٍ مِن مسبحٍ داخليّ فقصده .
كانت غرفة جدرانها مِن زُجاج حوت مسبحًا كبيرًا فلم يتردد في الدخول فقد رأى طيف ضحيته يسبح و يعوم في الماء.
ضحك بداخله عما شاهده حينما انتصب ضحيته فزعًا مِن دخوله المفاجئ و خرج من الماء بخطواتٍ مرتبكة و غير متزنة.
حدث ذاته :"كُل تلك العبقرية و الادعاء و لا تجيد السباحة إلا بعواماتِ يدٍ كالأطفال يا تيمي ؟"
"ماذا تُريد !!!" صاح الرجل في وجهه.
كعادته , لم يجب و لم يكن مضطرًا لأن يجيب .. فقط يحدق فيه حتى يقع أسيره !
"إخلع هذه العوامات" قال شاخصًا ببصره لتيمي.
فأطاع.
إقترب مِنه و لم ترمش عيناه لحظة حين قال :"عد للخلف عشر خطوات"
تركه مع عدهِ للخطوة الثالثة  ليلقى مصيره بخطوتهِ العاشرة غرقاً ...
***
سيكمل ما كان أستاذه يعمله و يترك الماضي وراء ظهره.
أو هذا ما كان في إعتقاده...
عاد بخطاه إلى المطبخ حيثُ يقع باب المنزل الخلفيّ و قبل أن يلج إليه أطل برأسه و إذ به يجد امرأة تداعب و تقبل طفلًا صغيرًا .
كان جميلًا للغاية .. بعكسه تمامًا.
"لكن لحظة ... إنها إنها .." اضطربت الكلمات بداخله و ظفرت بالخروج كلمةُ واحدة "ماما"
ضمت الأم طفلها الجميل إلى حضنها و تنفست بحدةٍ و بخوفٍ استدارت.
لحظاتٌ بلا حراك ثم صاحت بغضب :"أيها القبيح ما الذي أتى بكِ إلى هنا ألم تمت؟؟ !!"
و كأن الدهر لم يكفه ما غرسهُ في قلبهِ مِن الالام و أوجاع فها هو يضيف إليهِ جرحًا عميقًا لن يبرى.
أطرق برأسه , تعفر الدمع في عينه .
"أخرج أيها القبيح قبل أن يراك زوجي .. خارجًا يا سرويا"
رفع رأسه و شخصها بعينيه الملأ بالدموع .. لكن هناك شيء ما مختلف إنه غاضب مجروح.
دمعه لا يتوقف عن الأنهمار  , جفناه لا يرمشان و بؤبؤاه ثابتين في عينيّ أمه التي كرهها بقدر ما أحبها و عشقها.
لم تستطع الحراك بإرادتها بعد هذا !
فراحت تنفذ أوامر ولدها بلا وعي أو إدراك .
ابنها الذي راح يصرخ و دمع عيناه ينهمران.
"خذي السكينة و أغرسيها في قلب ابنتك"
لم تملك حرية الرفض ففعلت.
"الآن" قالها بغضب ثم أكمل بهدوءٍ تام :"اقتلي نفسكِ"
ففعلت.
انهارت أمامه بعدما ادخلت السكينة في جوفها لم يمنعها أو يحميها بل راح يضحك..
يضحك بهستريا .
"أهو الجنون ؟" تساءل بذاته.
لكن سرعان ما طفق يضحك و قد علم أنه قد عاد لرشده للتو !

لا كلمة بلا معنى و لا معنى بلا كلمة , الإنسان هو المحتوى و أنت المسؤول بما تحشيه !
يجب أن تعرف متى تضيء شمعة في الظلمات دون أن تسبب حريق , و متى تطفأها لتضيء قلبِ شخص آخر.
سرويا , لم يجد من يطفأ شرارةٍ حقدٍ حولتها عبارة لتصبح نارًا جسدت فيهِ حقدًا حولته مِن فتى ظريف .. إلى مجرمٍ عنيف !

النهاية.